شكّلت حروب التعرفات التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، صدمة كبيرة للاقتصاد العالمي، وكشفت عن نوايا واضحة لتقويض العلاقات بين ضفتي الأطلسي.
ومع ذلك، فإن هذه السياسات على الرغم من سلبياتها، فإنها دفعت الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في مكانته الدولية، وسلطت الضوء على قضية محورية وهي الحاجة الملحة إلى تحقيق استقلالية أوروبا عن الولايات المتحدة.
ويمتلك الاتحاد الأوروبي شبكة واسعة من الاتفاقيات التجارية والمساعدات مع نحو 70 دولة، ما يمنحه الفرصة ليكون لاعباً دولياً فاعلاً في عالم تتعدد فيه مراكز القوى، إلا أن تحقيق هذا الهدف يتطلب التحرر من إرثه الاستعماري، والتخلص من النزعة الأوروبية المتعالية، ومن السياسات التي تُغضب كثيراً من دول الجنوب العالمي بسبب المعايير المزدوجة التي يُعامل بها الآخرون.
وقد أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عن توجهات جديدة لبناء «اتحاد أوروبي جديد» قادر على صياغة نظام عالمي مختلف، مشيرة إلى أن «الغرب كما نعرفه قد انتهى»، ما يفرض على أوروبا التكيف مع نظام عالمي أكثر تعقيداً.
الاستقلال الاستراتيجي
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دعا مراراً إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، حتى إن المستشار الألماني المحافظ فريدريش ميرتس - على الرغم من تمسكه بالشراكة مع واشنطن - أكد ضرورة تحرر أوروبا من التبعية للولايات المتحدة.
واللافت أن هذه الدعوات تأتي في وقت يتزايد فيه التأييد الشعبي لفكرة الاتحاد الأوروبي كقوة عالمية، خصوصاً في بعض دول الجنوب العالمي التي تنظر إليه كفاعل جيوسياسي مهم.
كما أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا وهنغاريا وبولندا ودول البلطيق، لاتزال تتمسك بالحماية الأميركية.
وأثارت انتقادات وزير الخارجية الهندي، سوبرا مانيام جايشانكار، جدلاً، حين قال بعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، إن أوروبا «تفترض أن مشكلاتها هي مشكلات العالم، لكن العالم لا يرى مشكلاته في مشكلات أوروبا».
الجنوب العالمي
وفي الواقع، يشعر كثيرون في دول الجنوب العالمي بالإحباط من مواقف الاتحاد الأوروبي التي تبدو منحازة، على الرغم من شعاراته بشأن الدفاع عن حقوق الإنسان، فقد قال أحد الباحثين من جنوب إفريقيا، إن «الاتحاد الأوروبي يحتفظ بمواقف متجذرة لديه، ذات جذور استعمارية تنطوي على تفكير فوقي متأصل».
ومع ذلك، ظل الاتحاد الأوروبي متمسكاً بقواعد التجارة العالمية، ويتمتع باقتصاد يسجل نمواً متواضعاً، وسوقاً داخلية موحدة جذابة وحيوية. ولقد حان الوقت لتطوير علاقات الاتحاد الأوروبي مع دول الجنوب العالمي، لكن قواعد التبادل القديمة أصبحت بحاجة إلى إصلاح عاجل.
وتقول فون دير لاين، إن «العالم يستعد لإيجاد فرص عمل آمنة مع أوروبا التي تتمسك بسيادة القانون، في حين يثير ترامب الفوضى في الأسواق العالمية».
غير أنه بعد سنوات طويلة من متابعة السياسات الأوروبية تجاه دول الجنوب، من الواضح أن على صانعي السياسات في الاتحاد الأوروبي التوقف عن التعامل بفوقية مع الدول الأخرى، وإلقاء الدروس والتعليمات على الدول الأخرى، والبدء في الاستماع للشعوب المضطهدة التي عانت الكثير جراء الاستعمار الأوروبي.
وإضافة إلى حماية التجارة، يتمتع الاتحاد الأوروبي بفرصة نادرة لإعادة تقييم مصداقيته في القوة الناعمة التي شوّهها الآن تصاعد العنصرية والكراهية ومعاداة السامية، والتراجع في الدفاع عن حقوق المرأة.
نهج أوروبا المتعالي
وبعد سنوات من المفاوضات تبدو اتفاقيات الاتحاد الأوروبي التجارية الجديدة مع إندونيسيا وماليزيا وتايلاند والهند مدعاة للتفاؤل.
إلا أن هناك شعوراً بالريبة في بعض تلك الدول من نهج أوروبا المتعالي، الذي يفترض أن «معاييرنا أفضل من معاييركم».
كما أن اندفاع الاتحاد الأوروبي لإبرام صفقات مع دول إفريقية غنية بالموارد، مثل رواندا والكونغو وناميبيا يثير المخاوف من تكرار نمط «الاستغلال الاستعماري» تحت غطاء الاقتصاد الأخضر، لذلك فلا عجب أن إندونيسيا وبعض الدول الإفريقية تقاوم.
ومنذ أن أوقفت إدارة ترامب دعم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، يكافح الناشطون الأوروبيون للحفاظ على تمويل الاتحاد الأوروبي للدول الأكثر هشاشة في العالم، لكن ليس هناك كبير أمل في ذلك عندما تكون حكومات دول الاتحاد الأوروبي - بما فيها فرنسا وألمانيا - تعاني مشكلات اقتصادية وتُقلِّص ميزانياتها المخصصة للتنمية ومساعدة الدول الفقيرة.
أوروبا الحصينة
وفي الوقت الذي يتم فيها لجم الهجرة إلى أوروبا «الحصينة» بكل مظاهرها القاسية، تثير استراتيجية الاتحاد الأوروبي المتمثلة في الاعتماد على رجال أقوياء في دول الجوار يتقاضون المال مقابل ردع عبور المهاجرين إلى أوروبا صراعاً عنصرياً خطراً، تجلى في العديد من الحالات حول الطريقة التي تم من خلالها التعامل مع هؤلاء اللاجئين، وحالة التمييز بينهم استناداً إلى أسباب مختلفة.
وتقول الخبيرة في العلاقات بين أوروبا وشمال إفريقيا، ياسمين عكرمي: «اتهمت تونس المهاجرين الأفارقة بالمشاركة في مخطط لتغيير التركيبة السكانية في تونس، وهي حجة (استبدال شامل) لم يسمعها أحد من قبل في شمال إفريقيا».
فرصة نادرة
ومن نواحٍ عدة، يوفر ترامب لصانعي السياسة في الاتحاد الأوروبي الفرصة، حيث تعتبر هذه الفرصة نادرة الآن لمراجعة بعض سياسات الاتحاد الأوروبي الأكثر فظاعة، ولإعادة صياغة الاتحاد بشكل حقيقي ككيان ذي مصداقية وأهمية على الساحة العالمية.
إن تعامل الاتحاد الأوروبي القوي مع دول جنوب العالم، يمكن أن يساعد على تحقيق الاستقرار الجيوسياسي في منطقة مضطربة من العالم، وسيقدم أيضاً بديلاً مقنعاً لما يقوم به ترامب في العالم حالياً، لكنه سيتطلب أكثر من مجرد خطابات فون دير لاين وأوهامها.
شذى إسلام*
*كاتبة بلجيكية متخصصة في شؤون الاتحاد الأوروبي.
عن «الغارديان»
حقوق المرأة
يمكن أن يُظهر الاتحاد الأوروبي مزيداً من الحزم في وجه هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مبادرات التنوع والمساواة والشمول، لكن بينما تسعى مفوضة المساواة في الاتحاد الأوروبي، حاجة لحبيب، إلى تعزيز حقوق المرأة، لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن لإحياء قانون مهم لمكافحة التمييز ضد المرأة، جرى سحبه فجأة في وقت سابق من هذا العام.
وقوّضت ألمانيا ودول أخرى السلطة الأخلاقية للاتحاد الأوروبي عندما رفضت السماح لأي شخص، بالدعوة إلى حماية حقوق الإنسان للمستضعفين في بلاد أخرى فقيرة.
. بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا وهنغاريا وبولندا ودول البلطيق، لاتزال تتمسك بالحماية الأميركية.
. تعامل الاتحاد الأوروبي القوي مع دول الجنوب العالمي يمكن أن يساعد على تحقيق الاستقرار الجيوسياسي في منطقة مضطربة من العالم.
0 تعليق