بيروت: حين يتكلم البحر وتُصغي المدينة - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة

 

في مساء بعيد من بداية الثمانينيات، نزلنا في مطار بيروت كما تنزل الطيور المهاجرة، بين السماء والضوء المتكسر فوق جبين البحر. كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً، وكان الليل ينسج خيوطه السوداء فوق المدينة التي طالما سمعت عنها، لا كحقيقة، بل كأسطورة تروى على ألسنة الأفلام، في كلمات عبد الحليم، في ضحكات فاتن حمامة وهي تتجول في باريس الشرق، بيروت.

لم يكن في رحلتي حينها متسع لرؤية شيء، فالإقلاع التالي كان مقررًا في السابعة صباحًا، لكن الأقدار، التي لا تحب الاستعجال، رتبت عطلًا فنيًا غيّر وجه الرحلة ومسار الحكاية. تقرر أن تُلغى الرحلة وتؤجل إلى صباح اليوم التالي، فحملونا إلى فندق في قلب المدينة، ووصلنا إليه عند منتصف النهار. وهنا، بدأت الرحلة الحقيقية.

خرجت من الفندق حافي البال من التوقعات، ولكن ممتلئ القلب بالفضول. المدينة بدت لي حينها كعجوز حكيمة تنظر إليك بعينين تعرفان التاريخ جيدًا، لكنها تبتسم كطفلة تعرف كيف تلهو رغم كل شيء. مشيت على أرصفتها كما يمشي المتصوفون، بلا خريطة، بلا هدف، فقط لألتقي بما ترسله الحياة.

عند شارع "الحمرا"، سحرٌ خاص يختبئ بين جدران المقاهي وواجهات الكتب. جلست في مقهى صغير، بالكاد يتسع لطاولتين وذاكرة، وكان هناك رجل مسن، شعره أبيض كلون زبد البحر، ينظر إلى الأفق كما لو كان يقرأ كتابًا لا يراه سواهما. طلبت قهوة، فقال لي النادل، بابتسامة تعادل كتاب حكمة: "أنت في بيروت... لا تشرب القهوة بسرعة، هنا القهوة تُشرب كما تُروى القصص."

تقدمت نحو الرجل، وجلست إلى جانبه، دون دعوة منه أو إذن، وكأن المكان رحب بأرواح تبحث عن المعنى. التفت إليّ وقال:

"من أي البلاد أنت؟"

أجبته: "من بلادٍ تشبه البحر حين يشتاق ولا يجد شاطئًا."

ضحك، وقال: "إذًا، مرحبًا بك في المدينة التي تعلم الشواطئ كيف تنتظر، وتعطي الأمواج أسماء."

كان هذا الرجل يدعى يوسف، شاعر لم يكتب قصيدة منذ الحرب، لكنه لا يزال يكتبها في قلبه كل يوم. حدثني عن بيروت كما لو كان يحدّثني عن امرأة يحبها رغم خياناتها، عن مدينة تعرف كيف تنكسر، لكنها كل مرة تنكسر بطريقة تجعلها أجمل.

وقال لي جملة لم أنسها قط:

"بيروت لا تبكي على الماضي، بل تزرع فيه بذورًا، وتنتظر أن تزهر حين لا يتوقع أحد."

في اليوم ذاته، التقيت بامرأة عجوز، كانت تبيع أساور ملونة قرب كنيسة قديمة. نظرت إليّ وقالت: "أنت غريب... والغريب في بيروت ضيف، والضيف هنا يُكرم بالكلمات قبل الطعام." أهدتني سوارًا، وقالت: "احمله معك، ففيه خيط من النور، وحبة من تراب هذه الأرض. كل من مرّ من هنا، أخذ شيئًا منها دون أن يدري."

تلك الليلة، جلست على شاطئ الرملة البيضاء. كنت وحدي، أو على الأقل ظننت ذلك، حتى جاء طفل صغير، جلس بجانبي وسألني: "هل تخاف من الليل؟"

قلت له: "أحيانًا."

فقال: "أنا لا أخاف. أمي تقول إن الليل لا يخفي إلا من يخاف أن يُرى."

وهنا أدركت: بيروت ليست فقط مدينة. إنها مرآة... من يراها، يرى نفسه من جديد.

إلى أولادي وأحفادي،

تعلمت من هذه المدينة أن الحياة ليست طريقًا مستقيمًا، بل نهرٌ يتلوى، ويتغير، ويصنع مجراه بين الصخور. أن الفرح ليس هروبًا من الألم، بل تواطؤ معه على المضي قدمًا. أن الكلمة الطيبة، والابتسامة، وكوب القهوة المشترك، كلها مقاومة.

الحكمة التي أخذتها من بيروت:

"ليس ما نواجهه هو ما يصنعنا، بل كيف نُعيد تشكيل أنفسنا بعد كل مرة نسقط فيها.”

إنها المدينة التي، كلما سقطت، نهضت بوجه أكثر جمالًا، كأنها تقول للقدر:

"ما زلت هنا. وما زلت أحب الحياة، بكل ما فيها."

 

.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق