كتب كمال ميرزا -
الاستعمار الإنجليزيّ كان وما يزال الأقذر عبر التاريخ.. لماذا؟
أولاً، لأنّه استعمار "سحلاب دحلاب"، لا يطرح نفسه بصيغة استعمار، ويتبدّى بمظهر وادع ومدنيّ ومسالم قياساً بغيره من المشاريع الاستعماريّة، ولكنّه في طيّاته يُضمر كلّ عنصريّة وعنجهيّة وخباثة ودمويّة "الرجل الأبيض".
ثانياً، لأنّه الاستعمار الذي وظّف الأنثروبولوجيا كما لم يوظّفها أحد، وذهب بنظريّة "فرّق تسد" إلى حيث لم يذهب بها أحد، وجعل من مدرسته "البنائية الوظيفيّة" سيفاً مُسلّطاً على رقاب الشعوب يبثّ الانقسام والفرقة والتشرذم والعصبيّات والصراعات فيما بينها ليضمن هيمنته عليها، وإعادة إنتاج هذه الهيمنة مرّة بعد مرّة.
ثالثاً، لأنّ هذا الاستعمار لم يغادر بصيغته العسكريّة المباشرة بلداً إلا وقد ترك فيه نخبةً تدين له بالولاء، واقتصاداً يدين إليه بالتبعيّة، وزرع فيه ألغاماً كامنةً وبؤراً للنزاع قابلةً للتفجير في أي لحظة لدوافع دينيّة أو قوميّة أو إثنيّة.. الخ متى ما اقتضتْ الضرورة أو المصلحة ذلك!
إقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند هو مثال فوق العادة على النقطة الثالثة أعلاه، وإن كانت القائمة تضم أمثلة أكثر من ذلك بكثير، ومن جملتها "القضيّة الفلسطينيّة" نفسها وما يُسمّى "الصراع العربيّ - الإسرائيليّ".
الكلام أعلاه يُوضّح في عُجالة "أرضيّة الصراع"، أو مجمل العوامل التي تجعل من هذا الصراع مُمكناً وقابلاً للتفجير. ولكن يبقى هناك سؤالان بحاجة للإجابة لكي تتضّح صورة الجولة الحالية من التصعيد: مَن المستفيد؟ ولماذا الآن؟
المدخل للإجابة على هذين السؤالين واحد: "بنيامين نتنياهو"!
فمنذ أن وقف "النتن" بكلّ وقاحة في الأمم المتحدة حاملاً خرائطه، وأعلن بكل غطرسة وغرور عن مشروع الممرّ الاقتصاديّ الهنديّ - الشرق أوسطيّ - الأوروبيّ الذي يمثّل الكيان الصهيونيّ مركزه وبؤرته.. كان واضحاً أنّ العالم ذاهب إلى جولة من المواجهات والصراعات هي في جوهرها "حرب عالميّة ثالثة" يُحجم الجميع للآن عن تسميتها صراحةً بذلك!
فأيّ طالب سنة أولى علوم سياسيّة أو اقتصاد، لا يحتاج إلى كثير من المعرفة والذكاء، لكي يدرك أنّ مشروع الممرّ هذا يأتي "ضدّاً" لمشروع "الحزام والطريق" الصينيّ، والذي يمثّل "الكوريدور الصينيّ - الباكستانيّ" أحد أهم تفريعاته، بكون هذا الكوريدور يمنح الصين ومشروعها منفذاً على بحر العرب والخليج العربي ومجمل المحيط الهنديّ ومضيق باب المندب والبحر الأحمر (فقناة السويس والبحر المتوسّط وسواحل جنوب أوروبا) والساحل الشرقيّ لإفريقيا.. كلّ ذلك عبر ميناء "جوادر" الباكستانيّ (اذهب وتأمّل في الخارطة).
وبالنسبة للتوقيت، فإنّ تفجير الصراع بين الهند والباكستان الآن تحديداً (والذي كان لا بدّ أن يندلع في مرحلة ما) من شأنه التخفيف كثيراً عن الكيان الصهيونيّ و"نتنياهو" وعصابة حربه، وإطاله عمر "النتن" السياسيّ قليلاً، وإعطائه المزيد من الوقت والفسحة و"التعتيم" لإنجاز "المهمّة" التي فشل في إتمامها لغاية الآن، وهي تفريغ غزّة من أهلها، وسلب غازها، وتهيئة شمالها الذي سُوّي بالأرض لإستقبال "قناة بن غوريون"، البديل الهندو - خليجيّ - صهيونيّ لقناة السويس المصريّة!
بكلمات أخرى، الصراع الباكستانيّ - الهنديّ هو فصل متمّم آخر من فصول حرب الممرّات والموانئ وخطوط الطاقة (ومصادر المياه) العالميّة، والتي تمثّل الحرب على غزّة، والربيع العربيّ في سوريا، والحرب الروسيّة - الأوكرانيّة.. بؤراً أساسيّةً من بؤرها!
وهناك عامل إضافيّ يُضاف إلى السياق العالميّ أعلاه، وهو أنّ باكستان هي الدولة الإسلاميّة الوحيدة التي تمتلك بشكل رسميّ ومُعلَن سلاحاً نوويّاً، وامتلاك دولة إسلاميّة لمثل هذا السلاح، أو بالأحرى استمرارها في امتلاكه، هو أمر مرفوض وخطّ أحمر بالنسبة لـ "الجميع"؛ بكون ذلك يخلّ بموازين القوّة والردع (حتى بين الحلفاء بعضهم البعض)، وخشية تصدير هذا السلاح، وخشية أن يقع في الأيدي الخطأ، أي في يد نظام وطنيّ بحقّ يدين بالولاء والتبعيّة لنفسه ولعمقه الإسلاميّ وليس للغرب أو للشرق!
وإذا عدنا بذاكرتنا قليلاً، فإنّ باكستان منذ اندلاع معركة "طوفان الأقصى" لم تكن في واجهة الدول التي تتولّى التعليق اليوميّ على الأحداث، أو التي تقود الحراك الدبلوماسيّ.. ولكن عندما طالب وزير التراث الصهيونيّ بضرب قطاع غزّة بقنبلة نوويّة، حرصتْ الخارجيّة الباكستانيّة بخلاف المألوف على الردّ بسرعة، والخروج ببيان صريح يُدين التصريحات الصهيونيّة.
باكستان تعلم أنّه في حال قيام الكيان الصهيونيّ باستخدام السلاح النوويّ ضدّ غزّة فإنّ أنظار العالم الإسلاميّ قاطبةً ستتجه إليها باعتبارها القوّة الإسلاميّة النوويّة الوحيدة. وبيان الخارجيّة الباكستانيّة في حينه كان بمثابة رسالة صريحة بأنّها تعي الدور التاريخيّ المُتوقّع منها في هذه الحالة، وأنّها على استعداد للقيام بهذا الدور، أو على الأقل هي لن تستطيع التنصّل من الوفاء بهذا الدور!
وإذا كنّا نحن كعادتنا بلا ذاكرة وننسى بسرعة، فالكيان الصهيونيّ وأسياده الغربيّون ليس من عادتهم النسيان!
بقيت هناك نقطتان لا بدّ من توضيحهما تلافياً لأي التباس.
أولاً، أمريكا الدولة هي امتداد للمشروع الاستعماريّ الإنجليزيّ؛ فبرغم التعدّدية والليبراليّة الظاهريّة لـ "الحلم الأمريكيّ"، وتنوّع مشاربه و"مراكزه الثقافيّة".. لطالما كان جوهر هذا الحلم بروتستانتيّاً أنجلو - سكسونيّاً مُحافظاً. ولعل "برنارد لويس"، سليل الاستشراق الأوروبيّ والبنائيّة الوظيفيّة الإنجليزيّة، ومهندس "الربيع العربيّ" و"تقسيم ما هو مُقسّم".. هو شاهد فوق العادة على ذلك.
ثانيّاً، الصهيونيّة برغم قشرتها اليهوديّة والتوراتيّة الخارجيّة، هي في جوهرها ربيبة المسيحيّة البروتستانتيّة الكالفنيّة والبيوريتانيّة، والتي تمثّل الكنيسة الإنجليكانيّة الإنجليزيّة تمثّلها العلمانيّ والعلمويّ الأقصى. أو فلنقل إنّ الصهيونيّة هي اليهوديّة وقد أُعيد تعريفها لتخدم المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ البروتستانتيّ الغربيّ (كما أنّ مجاهدي البترو-سلفي-دولار حاليّاً هم الإسلام وقد أُعيد تعريفه ليخدم ذات المشروع)!
0 تعليق