عرب فايف

وصفي التل... حين صافح العامل قبل الموكب - عرب فايف

جو 24 :

 

عيد العمال في الأردن لم يكن في أصله مجرّد يوم عطلة تُضاف إلى دفتر الأيام، بل كان إعلانًا وطنيًا صريحًا بأن الكرامة تُصنع في المعمل، والمجد يبدأ من يدٍ خشنةٍ أرهقها الإنتاج وأعزّها الانتماء. أول من فهم هذه المعادلة، رجلٌ لم يكتب اسمه بالحبر، بل بالنزاهة والدم، اسمه وصفي التل.

وصفي هو من أقرّ عطلة عيد العمال، لكنه لم يُقِرّها على الورق فقط، بل في وجدان الدولة. كان يحتفل بها مع العمال لا من خلف المايكروفون، بل من أمام ماكينة الغزل والمطرقة وسنديانة القمح. زارهم في مواقعهم، صافحهم فرداً فرداً، وكان يرى في العرق شهادة وطنية لا تقل قدسية عن الدم في ساحات المعارك.

آمن وصفي بأن قوة الأردن لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بعدد الأيادي العاملة، وأن سيادة القرار تبدأ من المصنع والمزرعة، لا من المنصة. وفي عهده، كانت الأرض الأردنية تزرع وتُصدّر، وكانت الطرق تُشَقّ لتوصل المنتج الوطني إلى البحر لا إلى البروتوكولات، وكان المصنع عنوان الدولة لا ملحقاً بها.

ومن ينسى غضبته يوم شاهد معرض الصناعات الوطنية، ولم يُعجبه ما رآه، فخبط الأرض بقدمه وقال: "السنة القادمة أريد أن يصل هدير الماكينات إلى كل مكان". لم يكن يتحدث عن هدير الحديد فقط، بل عن صحوة وطن.

نستذكر "حوض الديسة" الذي كان يُطعم العاصمة من خيرات بطنه، ومصانع سحاب التي كانت تدور فيها الماكينات دون انقطاع، و"الغور" الذي كان يُصدّر الخضار قبل أن نكتفي بالاستيراد. نستذكر "الزرقاء" يوم كانت مدينة الصناعة العسكرية والمدنية، و"إربد" حين كانت بيدر القمح الأول، و"معان" التي حفرت اسمها على جبين الفوسفات، و"العقبة" حين كانت ميناءً يشحن الحلم الأردني إلى البحر. ونستذكر عمال البوتاس في جنوب المملكة، الذين يكدّون في حرارة الأرض لتصل منتجاتهم إلى أكثر من 50 دولة، حفروا اسم الأردن في الموانئ العالمية لا بالحبر، بل بالعرق.

واليوم، ونحن نُحيي عيد العمال، لا بدّ أن نستذكر الحقيقة التي لا تزول: إن تقدم الأوطان وازدهارها يبدأ من يد العامل، من عرقه الذي يبني، من صبره الذي يُصنع منه الأمن الغذائي والصناعي والتعليمي والصحي. كل عامل في كل قطاع: من الزراعة إلى الصناعة، من التعليم إلى البناء، من السكة إلى المشفى، من الميناء إلى الصحافة... كلهم لبنات في صرح الوطن.

ومن هنا، لا بدّ من مراجعةٍ وطنيةٍ صادقة، تبدأ بإعادة النظر في التشريعات التي تحفظ للعامل كرامته وحقوقه، فكرامته من كرامة الوطن، وحين يُنصف العامل، يُنصف الوطن كله. فالعدالة الاجتماعية ليست رفاهية، بل شرط للاستقرار، وسند للسيادة.

كل عام وأنتم بخير يا بناة الأردن، يا من جعلتم من العرق وسامًا، ومن التعب شرفًا، ومن المهنة رسالة. فلنشمر معًا، لا من باب الواجب فقط، بل من باب الانتماء، لأن هذا البلد لا ينهض إلا بمن يعمل لأجله.

  


أخبار متعلقة :